الأخوة المواطنون
اليوم يمر سبعة وأربعون عاما علي قيام ثورة يوليو المجيدة ، التي لازالت تمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ مصر والعالم الثالث علي امتداده ، رغم ما يقرب من نصف قرن علي وقوعها . اقترنت الثورة بأحداث جسام ، شكلت فاصلاً مهماً في تاريخ النضال الإنساني في سبيل الحرية والكرامة ، وضد الاستغلال والاستعمار والقهر ، وتجاوز تأثيرها نطاق مصر والعالم العربي لتصبح رمزاً لنضال شعوب عديدة في مختلف أنحاء العالم ، وتكافح من أجل استقلالها الوطني وتحرير إرادتها . لقد جسدت ثورة يوليو تطلعات عصر جديد ، يدعو الي تصفية الاستعمار وتحرير الشعوب واحترام حقها في تقرير مصيرها واستقلال قرارها الوطني ، وفي اختيار النظام السياسي والاجتماعي الذي يلائمها ويحقق أمانيها المشروعة ، وكانت - بكل المقاييس - تتويجاً لنضال طويل ، خاضه الشعب المصري دفاعاً عن حقه في وطن كريم . قامت ثورة يوليو البيضاء علي أكتاف طليعة مخلصة من أبناء مصر في القوات المسلحة ، يقودها ابن مصر البار الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ، واستلهمت ثوابتها الراسخة من نضال المصريين علي طول تاريخهم الحديث ، الذي حملت لواءه اجيال متتابعة ، قادت معارك الكفاح الوطني وحملت راية النضال الإنساني في سبيل أسمي الغايات وأنبل الأهداف . ورغم كل متغيرات عصرنا الراهن ، فستظل ثورة يوليو تشكل جزءاً من ضمير الشعب ووجدانه، لان ثورة يوليو في حقيقتها وجوهرها الاصيل ، تعني انحياز الحكم الي مصالح السواد الأعظم من الشعب ، والحفاظ علي استقلال القرار الوطني ، والالتزام بالتنمية الشاملة ، من أجل تحقيق تقدم حقيقي في حياة المجتمع ، والحرص علي ان يكون لمصر جيشها القوي ، الذي يحمي أمنها ومصالحها . غير أن الفهم المخلص والموضوعي لأبعاد ثورة يوليو ، يفرض علينا أن ننظر الي مسارها في سياقها التاريخي الصحيح وفي ضوء الواقع السياسي الذي كان قائما في منتصف القرن العشرين ، والصعوبات الضخمة التي واجهتها في ظروف الاستقطاب الدولي الحاد والحرب الباردة ، وانقسام العالم الي معسكرين متناقضين يتقاسمان مناطق النفوذ .
وقد مضت علي ثورة يوليو مدة طويلة ، شهدت أحداثا وتغيرات وتطورات مثيرة ، وتغير العالم خلالها علي نحو عميق ، واختلفت الاوضاع الدولية والإقليمية عما كانت عليه في منتصف القرن العشرين ، فقد انتهي عصر الاستقطاب الدولي ، وسقط عصر الايديولوجيات والعقائد الجامدة ، وتغيرت موازين القوي في النظام العالمي الجديد ، وتعاظمت آثار ثورة التكنولوجيا والاتصالات والمعلومات .. التي اختصرت المسافات ، وأنهت الحواجز الفكرية والجغرافية ، حتي اصبح يقال إن العالم قد تحول الي قرية كبيرة واحدة ، خصوصا في ميادين الاقتصاد والتجارة وسادت العلاقات الدولية نظرة جديدة ، تغيرت فيها صور الحرب والعنف ، وتزايد الاتجاه نحو حل المنازعات المزمنة عن طريق الحوار والتفاوض ، والقبول بحلول وسط . ولا شك أن متغيرات الواقع تفرض نفسها علي حركة التاريخ ، وتفرض نفسها علي مسيرة الشعوب ، فالتاريخ لا يكرر نفسه ، ولا يستعيد فصوله القديمة ، ولكنه يمضي في حركته قدماً الي الامام ، يستفيد من أحداث الماضي ودروسه المستفادة .
لقد كان واحداً من مميزات ثورة يوليو أنها رفضت ان تحبس تجاربها في قوالب نظرية صماء ، أو رؤية عقائدية جامدة ، وحرصت علي التمييز بين الثوابت التي لا يجوز التفريط فيها ، والمتغيرات التي يحسن أن تتوافق مع مقتضيات التطور ومطالبه . وفي عصر تغيرت أولوياته ، ليصبح الهدف الحقيقي هو تحقيق تنمية متصلة ، تُساعد علي توليد فرص عمالة جديدة وتحسين دخول الافراد ، لم يعد من المصلحة إهدار دور القطاع الخاص في التنمية ، لأن الحكومة لا يجوز أن تكون بديلاً للصانع أو الزارع أو التاجر ، وإن كان دورها يظل أساسيا وحيويا ، فهي التي تضع السياسات والبرامج التنموية ، وتحدد المسار ، وتقرر الضوابط اللازمة لحماية حركة المجتمع وتحقيق التوازن بين فئاته المختلفة . وفي عصر تتشابك فيه مصالح الدول وتتوحد معايير التجارة الدولية ، ويشتد الصراع منافسة علي الأسواق ، لم يعد في وسع أي دولة أو شعب أن يعيش في جزيرة منعزلة ، منقطعة الصلة بباقي الدول أو التجمعات الدولية .
الأخوة والأخوات
لقد حفظ الشعب المصري جوهر ثورة يوليو ، وصان ثوابتها الراسخة ، لكنه أعطي نفسه حرية الحركة والمبادرة وتصحيح المسار ، فأسقط الشعب من حسابه بعض ممارسات التطبيق التي لم تعد تتفق مع ظروف العصر ، وانحاز الي جوهر المبادئ الاصيلة التي تدعو الي التنمية المتواصلة والعدالة الاجتماعية ، والحفاظ علي استقلال القرار الوطني ، والانحياز الي سلام عادل ، تصونه قوة ردع وطنية . وإذا كنا نركز علي التنمية المتواصلة ونعتبرها حجر الزاوية في فلسفة الحكم ، فلأن التنمية هي السند والضمان الحقيقي لاستقلال القرار الوطني ، وهي السبيل الوحيد لخلق فرص عمالة منتجه ، تستوعب كل عام نصف مليون شاب من أجيال مصر الجديدة ، وطموحنا ان يرتفع معدل التنمية هذا العام الي حدود تتجاوز 6 في المائه .. مع استمرار قدرتنا علي كبح جماح التضخم كي تحتل مصر مكاناً متقدماً في قائمة الدول المتوسطة الدخل .
ولا يقل أهمية عن ذلك ، انحيازنا الاكيد لسلام شامل وعادل في الشرق الاوسط ، ينهي الصراع العربي الاسرائيلي ، علي نحو يحقق التوازن بين حقوق وواجبات كل الاطراف ، فيتيح للفلسطينيين إقامة دولتهم المستقلة علي أرضهم ، ويمكن سوريا من استعادة الجولان ، ويحقق انسحاب اسرائيل من الأرض التي تحتلها في جنوب لبنان ، ويعيد صياغه العلاقات بين دول الشرق الاوسط وشعوبها علي أسس جديدة ، تكفل التعاون المشترك ، والأمن المتبادل ، وجعل المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل . وسوف نواصل جهدنا دعماً لمسيرة السلام التي نأمل أن تخرج من حالة الجمود التي استمرت ثلاث سنوات لتسير الامور علي النحو الذي يحقق الامن والسلام والاستقرار لكل الاطراف .
الأخوة والأخوات
ان آمالنا كبيرة في ان يسود العقل ، وتغلب الحكمة ، وتنتصر إرادة السلام ، لأن سلام الشرق الاوسط يحقق صالح دول العالم أجمع ، ويحقق صالح كل شعوب المنطقة . وقد شهدت الساحة في الآونة الاخيرة تطورات تعزز الأمل في النفوس ، وتحيي الثقة في انتصار قضية السلام ، لأن شعوب المنطقة قد أدركت بعد التجارب التي خاضتها أن السعي لاقتلاع النزاع من جذوره ، وإحلال السلام الشامل والعادل في كل ربوع المنطقة هو المنهج الذي يحمي مصالح جميع الشعوب دون إستثناء .
وفي ظل السلام تمكنت مصر من توجيه هذا القدر الضخم من مواردها لتجديد بنيتها الاساسية التي كانت قد تهالكت وتقادمت طوال سنوات الصراع ، واستطاعت أن تمضي قدماً علي طريق الإصلاح الاقتصادي من خلال برنامج وطني ناجح جعل منها منطقة جذب مهمة للاستثمارات الوطنيه والعربية ، ومكنها من تنفيذ ثلاث خطط للتنمية ، غيرت وجه الحياة في مصر، وأتاحت الفرصة للبدء في عدد من المشروعات العملاقة ، سوف تغير خريطة مصر السكانيه ، وتنشر العمران علي مساحات أوسع من أرض الوطن . وفي ظل السلام .. تنامت مسيرة الديمقراطية ، التي تزداد عمقاً بقضاء شامخ وصحافة حرة ، ومؤسسات نيابية تعكس نبض الجماهير وآمالها .
أسال الله العلي القدير أن يكلل بالنجاح مسيرتنا وأن يهدينا من أمرنا رشدا، إنه نعم المولي ونعم النصير . وكل عام وأنتم بخير منقول
|