الأخوة والأخوات الأعزاء
ربع قرن مضي علي هذا اليوم المشهود , الذي حقق فيه شعبنا العريق واحدا من أعظم إنتصاراته علي إمتداد تاريخه الحافل وسجل به ملحمة رائعة في الوطنيه ومعزوفة قومية مهيبة لا يمكن أن يمحوها الزمن إلي يوم الدين , فليس هناك ماهو أغلي علي المصري من تحرير الأرض والذود عن العرض , وتخليص الإرادة وممارسة السيادة , وإسترجاع الحق والكرامة , وليس هناك شعب علي وجه الأرض يقدس التراب الوطني مثلما يفعل الشعب المصري , يفتديه به بروحه ودمه , ويعلي قدره في العالمين , فهو أرض الأجداد , ومهد أصحاب الأمجاد , صناع الحضارة , وبناة المدنية والتقدم .
فليس غريبا إذن أن ينظر كل مصري أصيل إلي أرض الوطن المفدي باعتبارها كيانا عالي القدر لايمس ولا يمتهن , ولو كلفه هذا التضحية بنفسه وولده , وقوته ورزقة , لأن الأرض في ضمير المصري تنصهر في سبيكة واحدة مع العقيدة والقيم , والتراث والمستقبل , والعلم والمعرفة , وهي عرين الرجال وقلعة الأبطال , الذين يتحدون الدنيا بأسرها , لكي تبقي رايات الوطن عالية فوق هامات البشر , وتظل مصرنا الحبيبة مرفوعه الرأس خالدة الذكر بين الأمم إلي أبد الآبدين . لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة عسكرية خاضتها البلاد وحققت فيها أكبر انتصاراتها , وإنما كانت اختبار ا تاريخيا حاسما لقدرة الشعب علي أن يحول الحلم إلي حقيقة , ويترجم الأمل المنشود إلي عمل , وأن يفرض علي الخبراء و المحللين أن يراجعوا أنفسهم ويعيدوا حساباتهم , وأن يأخذوا بعين الاعتبار أن نتائج المعارك لا تتحدد فقط حسبما يتوافر لديها من سلاح وعتاد , و إنما تتحدد أساسا بارادة الرجال وعزائم الأبطال , القادرة علي اختراق أضخم الحصون وهز رواسخ الجبال . وإذا كان البعض يصف ما حدث في تلك الأيام المباركة بأنه كان إعجازا يفوق الخيال , فقد كان عليهم أن يدركوا أن أي عمل بطولي خارق مهما كانت تبعاته ومتطلباته لا يمكن أن يتجاوز قدرة الانسان المصري , الذي حقق للبشرية أعظم إنجازاتها في تاريخها الطويل , وحطم كل الحواجز التي كانت قائمة أمام الإبداع البشري , فبلغ الذروة في العلوم والآداب والفنون , وتخطي حدود الزمن , وإنطلق يفكر في الحياة الأبدية , وباختصار , فقد كانت أعماله الكبري سلسلة من الإنجازات الخارقة بكل المعايير المتعارف عليها لدي سائر الأمم والشعوب , أما بالنسبة لهذا الشعب العريق , فقد كانت مواصلة لمسيرة حضارية كبري , سجلها التاريخ بأحرف من نور في اللوح المحفوظ .
لقد كان هذا الإنجاز العظيم عملا بطوليا فدائيا خالصا لوجه الله والوطن , شارك فيه كل مواطن مصري بكل ما ملكت أيمانه وإستوعبت قدرته , فجاءت المعركة في اليوم الموعود معزوفة عذبة كفيلة بأن تتناقلها الأجيال القادمة من أبناء مصر بكل مشاعر الفخر والاعتزاز , وبكل ولاء للوطن ووفاء للأبطال الذين حملوا رؤوسهم علي أكفهم , وخرجوا في مسيرة مظفرة , يذودون عن الأرض , ويدافعون عن الحق , ويروون بدمائهم الزكية أشجار الحرية , كما يروون للتاريخ أعظم قصص البطولة والفداء . كان هذا الانجاز الرائع إذن عملا جماعيا شارك فيه كل مصري ومصرية , وتحمل مسئوليته الكبري أحد قادة مصر العظام , الرئيس الراحل محمد أنور السادات , بطل الحرب ورجل السلام , الذي قدم حياته فداء لوطنه وأمته , وكرس كل قطرة من دمه لخدمة الأهداف القومية العليا , فكان عظيما في حياته شجاعا في مماته , فلم يبال حين لقي قدره مقاتلا في أي جنب كان في الله مصرعه , بل إنه لم يأبه بالمخاطر والأهوال منذ اللحظة الأولي التي اتخد فيها قرار الحرب , وكان كل ما يشغل فكره ليل نهار هو مصير وطنه ومستقبل شعبه وأمته , فاستحق بهذا أن يحتل منزلة عاليه في صفوف الخالدين من أبناء مصر .
كان هذا العبور العظيم إنجازا هائلا غير مسبوق في التاريخ الحديث , حققته القوات المسلحة المصرية الباسلة , بالتخطيط السليم , والاعداد العلمي القائم علي أحدث فنون العصر , وتم هذا في ظل ظروف قاسية بكل معني الكلمة , تسابق فيها كل رجال قواتنا المسلحة في ساحة البذل والعطاء , ولم يضن أحد منهم علي الوطن بقطرة من دمه أوحبة عرق سالت علي وجهه المثقل بالهموم والأعباء , ولم يتردد فرد واحد في خوض المعركة ببسالة وشجاعه منقطعه النظير , فمنهم من قضي نحبه , ومنهم من انتظر . وسوف أظل أعتز ما حييت بالدور الذي هيأت لي المقادير ان اؤدية في هذه المعركة الفاصلة في اللحظات الأولي , التي بدأت بدك حصون العدو المنيعة وقصف مواقع القيادة والتحكم لديه وقطع خطوط اتصاله في عمق سيناء , وتم هذا خلال ساعات معدودة , مما أفقد العدو توازنه وأصابه باليأس والإحباط بعد أن كان يباهي بقوته التي لا تقهر , وتفوقة الذي لا يجاري , رغم أنه كان يعتمد في معظمه علي مصادر خارجية , تمده بأحدث الأسلحة والمعدات بغير حساب , وتقدم له الغطاء السياسي والاقتصادي والدبلوماسي , حتي يبدو صاحب حق وهو يحتل أرض الغير ويستمرئ الإثم والعدوان .
ولن تغيب عن مخيلتي لحظة واحدة صور بطولات خارقة شهدتها في تلك اللحظات الخاطفة , سجلها بدمائهم رفاق سلاح من كافة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة وتشكيلاتها القتالية , فلم يكتفوا بتحطيم مواقع العدو الحصينة ونسف خط بارليف الذي استغرقت إقامته سنوات طويلة , ولكنهم حققوا لبلادهم وأمتهم العبور العظيم , ليس فقط الي أرض سيناء المباركة , بل إنهم عبروا بها إلي ما هو أخطر من ذلك وأجل , وهو العبور من واقع النكسة الأليم إلي عصر الانتصار الكبير والفتح المبين , وإسترداد الحق والكرامة , وإستعادة الثقة بالنفس والعزة الوطنيه . ورغم أن الآداء الرائع للقوات المسلحة مكنها من تحقيق أهدافها المرسومة في ساعات قلائل , وأن بشائر النصر لاحت في الأفق بعد بدء المعركة بلحظات معدودة حين تبين بكل وضوح أن تشكيلات العدو قد إنهارت وتفككت بعد الضربة ا لأولي , إلا أن الحقيقة تظل أن توجيه تلك الضربة الناجحة وتحقيق النصر ما كان يمكن أن يتحققا بعد إعداد إستغرق أشهر معدودة , وإنما كان ضروريا أن يستمر هذا الإعداد ليل نهار سنوات طوال , بذل فيها جميع أبناء القوات المسلحة جهدا يكاد يكون فوق مستوي البشر , وتحملوا الكثير وهم صابرون , ثابتة أقدامهم وقلوبهم كأنهم يمسكون بجمرة من نار حتي يعيدوا للوطن كرامته ويصونوا له حقوقه ومصالحه .
إستغرق هذا العمل المجيد سنوات ست , هي الفترة التي انقضت بين النكسة الموجعه والانتصار الكاسح , ودارت فيها رحي حرب استنزاف باهظة التكاليف بشريا وماديا , وتطلبت من جميع فئات الشعب المصري تضحيات جسيمة لم يتردد أحد في تقديمها , وتمثلت في إعادة بناء القوات المسلحة , وإعادة بناء المواقع التي دمرتها حرب يونيو 67. وخوض حرب إستنزاف ممتدة , لم تترك لرجال القوات المسلحة والملايين التي وقفت وراءها من العمال والفلاحين وسائر فئات الشعب دون استثناء لحظة سكون واحدة , تستجمع فيها قواها وتراجع موقفها , بل إن الإعداد لمعركة المصير والحسم مضي بإيقاع سريع متصل , وقاد هذا العمل البطولي الزعيم الراحل جمال عبد الناصر , وإلي جانبه كوكبة متميزة من القادة والمقاتلين الأشداء , وعدد لا يحصي من المدنيين الذين جندوا أنفسهم للهدف الأسمي والإعداد للمعركة الفاصلة بصبر وأناة . وكانت المحصلة أن ما كان يزهو به بعض الواهمين علي الجانب الآخر مما أسموه حرب الأيام الستة , تلاشي واندثر تحت أقدام فرسان مصر العظام في لحظات معدودة , إستغرق الإعداد لها أعواما ستة , يجب ألا نسقطها من حسابنا , فما كان يمكن أن يتحقق هذا النصر الكبير بغير هذا الجهد الضخم , الذي تضافرت فيه جهود كل أبناء مصر البررة , فخاضت مصر حرب أكتوبر المظفرة وهي علي قلب رجل واحد , فما خرج مصري واحد عن الجماعة , وما تقاعس أحد عن العطاء والفداء .
سنوات طوال , تحمل فيها أبطالنا الألم والعرق والدموع , لكي يعدوا لعمل خاطف لم يستغرق أكثر من لحظات معدودة , أعادوا به إلي المنطقة توازنها , وصححوا ما اعتري النظام الإقليمي من خلل , بل إنهم قوموا جوانب القصور في النظام العالمي كله , الذي كان قد إختل هو الآخر , وأصبح يعاني من تخبط القوي الكبري وإنزلاقها إلي شرك الاتفاق علي تثبيت الأوضاع الإقليمية علي ما هي عليه من خلل وجور , دون إكتراث بالحقوق المسلوبة للشعوب الأخري أو إعتداد بمصيرها وقدرها . وقد توفر لهذا العمل التاريخي عنصر لا يمكن أن نسقطه من حسابنا , وهو البعد القومي , الذي تمثل في تنسيق خطة متكاملة بين مصر وسوريا , إضطلع فيها أخي الرئيس حافظ الأسد , حليفنا في الحرب وشريكنا في السلام بدور بارز , فكان أزيز الطائرات المصرية المقاتلة والقاذفة في سيناء يختلط بزئير مدافع الأبطال في هضبة الجولان بإيقاع متناغم متجانس , جدد الأمل في نفوس العرب , وأحيا العزة في قلوبهم بعد كبتها , فكان طبيعيا أن يهب الأشقاء في المشرق والمغرب للمشاركة في هذا الموكب الذي لن يمحي من ذاكرة عربي في أي عصر , وتم توظيف سلاح البترول لخدمة الأهداف العربية بمبادرة من قادة عظام , إرتفعوا إلي مستوي الحدث في لحظات معدودة وبادروا بإتخاذ خطوات تاريخية من تلقاء أنفسهم , أذكر منهم فقيد العروبة والاسلام الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز , الذي سنظل جميعا نذكر له دوره وشهامته الأصيلة بكل إجلال وتقدير
وسط هذه النفحات المباركة لحرب أكتوبر المجيدة , هناك حقيقة لا بد أن نصارح بها أنفسنا , وهي أن هذه الصفحة الناصعه من التاريخ المصري لم تحظ في تقديري وتقدير الكثير من المواطنين بما تستحقه من الاهتمام من مثقفي مصر ومبدعيها , وكان جديرا بهم أن يسجلوا اللقطات الحاسمة فيها بأقلامهم ورسومهم وأشعارهم وأفلامهم , حتي تظل حية في وجدان الأجيال المتعاقبة من أبناء مصر والأمة العربية , وتبقي إلي الأبد مثالا مضيئا لعودة الوعي وتجدد الثقة في نفوس الملايين , حين يتحدد أمامهم الهدف المشروع والأمل المنشود , وحين يعرف الشعب طريقه . وأقول مرة أخري إننا كنا ننتظر ألا يقتصر الأمر علي تسجيل كل ما يتصل بالحرب المباركة من الإعداد إلي الأداء , وتلك مهمة تحملت فيها القوات المسلحة المسئولية الأولي والنصيب الأوفر , وانما كنا ولا زلنا ننتظر من المبدعين المصريين والعرب أن يسهموا في تخليد هذا الحدث الخطير في كتب رصينه وأبحاث مستفيضة , وفي لوحات رسم وأعمال درامية محكمة , تتناسب مع جلال المناسبة , وطبيعة الإنجاز .
ولست أقول هذا ناقدا بل مراقبا ومعاتبا , ولعل في الأبحاث التي تقدم في هذه الندوة والمناقشات التي تدور فيها تشحذ الهمم , وتلهم العقول , وتعبئ الطاقات الإبداعية فتطلقها من عقالها , وتوقظها من سباتها , ولاء للوطن ووفاء لتلك الفئة الباسلة من أبنائه البررة , الذين جادوا بأرواحهم لكي تحيا مصر حرة تستعصي علي الغزاة والمعتدين , ولكي تكون كلمة الحق هي العليا , ولكي ينتصر الحق المشروع علي القوة الغاشمة , ولكي تتفتح علي ضفاف وادي النيل الحبيب كل يوم ملايين الأزهار .
وفقنا الله واياكم
والسلام عليكم ورحمة الله
المصدر http://www.sis.gov.eg/Ar/Story.aspx?sid=24884 |