الإخوة والأخوات الأعزاء
تابعنا باهتمام وتدقيق أعمال الندوة في اليومين الماضيين , واطلعنا علي ما ألقي فيها من أبحاث قيمة وما دار علي هامشها من مناقشات مستفيضة , اتسمت في مجموعها بالالتزام بالمنهج العلمي الموضوعي , الذي يستحقه هذا الحدث العظيم , باعتباره من أكبر أمجاد الشعب المصري العريق والأمة العربية قاطبة . ومن ثم فإنه يستحق من ا ومن الأجيال المتعاقبة من أبنائنا مزيدا من البحث المتعمق والتأمل المستغرق طوال السنوات والعقود القادمة , لأن هذا كفيل بأن يضيء أمامها الطريق , ويفتح الباب الي مستقبل مشرق , يتحقق فيه للوطن المفدي مزيدا من العزة والتنمية والتقدم , تحت مظلة وارفه من الأمن والاستقرار , تتيح لهذا البلد أن يقوم بدوره الريادي الذي لا غني عنه إقليميا ودوليا , وتضمن تدفق ينابيع العطاء المصري في سبيل رفعة المجتمع الإنساني كله , وتعزز إسهامه في الارتقاء بالنظم القيمية والأسس الأخلاقية والمستويات العلمية للعالم في الألفية الثالثة , التي لم يعد يفصلنا عن بدايتها أكثر من خمسة عشر شهرا سويا .
لقد كانت تلك الحرب المجيدة هي أهم العوامل التي نقلت مصر والأمة العربية من الظلمات الي النور , ومن الشعور بالعجز والقلق الي الثقة التامة بالنفس والقدرة علي تحقيق الهدف , ومن هنا يكون ضروريا ألا نعتبرها حدثا عارضا مضي وانقضي , بل إنها يجب أن تظل علامة هامة علي الطريق ومرحلة فاصلة , تمثل الانتقال إلي حالة جديدة تماما , ستظل شعلتها مضيئة في عقولنا وقلوبنا , نعيش كل معانيها وأبعادها نابضة بالحياة في أعماق نفوسنا , وتبقي مجسدة ماثلة في وعينا الجماعي قرونا عديدة , لأن الحرب ليست فقط ذروة الدراما الإنسانية , حين يخرج المقاتل في سبيل الله والوطن طلبا للنصر أو الشهادة , وإنما هي قبل هذا لحظة كاشفة حاسمة , تختبر فيها معادن الشعوب , وتمتحن بها إرادات البشر , لذا , فإنها تعد أخطر الأحداث في تاريخ الأمم , وتمثل أهم القرارات التي يمكن أن يتخذها قائد سياسي , بالتشاور بطبيعة الحال مع القيادات العسكرية المؤهلة , التي تتحمل العبء الأكبر في التخطيط والتنفيذ .
ولهذه الأسباب مجتمعة , يكون من الواجب علي أي مجتمع مستنير كالمجتمع المصري أن يوجه أكبر قدر من اهتمامه إلي الخروج من هذا الحدث العظيم بالدرس والعبرة , بعد أن يلجأ إلي تحليله بكل تجرد وموضوعية , بعيدا عن الهوي والغرض , حتي تكون تلك الملحمة بكل أبعادها وآثارها جسرا مؤديا الي مستقبل أفضل , وليست مجرد مناسبة احتفالية تلقي فيها الأشعار والخطب الحماسية , التي سرعان ما تذوي وتصبح نسيا منسيا , لأن الهدف من وراء هذا البحث المدقق والدرس المتعمق , هو الوصول الي مراتب أعلي في الأداء والعمل الوطني ليس فقط في ساحة الحرب وميدان القتال , بل في كل مجالات العمل القومي . ونسجل هنا أن كثيرا من الأبحاث التي قدمت في الندوة قد عنيت بهذا الجانب أثناء تغطيتها للنواحي التي ركزت عليها , وربما جاز لي أن أضيف اليها بعض الأفكار والخواطر التي يمكن أن تذكر في عداد الدروس والعبر , دون أن يمثل هذا أي انتقاص من قدر ما أبداه الباحثون والخبراء الذين شاركوا في الندوة , وأسهموا في نجاحها في تحقيق الغرض الأساسي من عقدها بعد مرور ربع قرن علي وقوع هذا الحدث التاريخي , الذي سيظل حدثا فاصلا بين أوضاع جائرة استقرت وجثمت علي صدورنا الي حين , وبين عهد الخلاص الكبير , الذي استعاد فيه العرب أرضهم وكرامتهم , وفتحوا به الطريق الي عصر جديد من النهوض الوطني والتقدم .
وأول الدروس التي أقترح : ان نستهلهما من هذا الحدث التاريخي الكبير , هو أن جانبا كبيرا من نجاح حرب اكتوبر يرجع الي أنها كانت حرب تحرير وطني وقومي , تحققت لها كل متطلبات الشرعية داخليا وخارجيا , سواء من الناحية القانونية أو الأخلاقية أو السياسية , ولم يستطع أحد أن يجادل في توفر هذا العنصر , فليس هناك من يستطيع أن ينكر علي شعب حقه في تحرير أرضه المحتلة بالغصب والقوة , لأن احتلال أرض الغير هو عمل غير مشروع لا سند له في القانون وقواعد السلوك الدولي , ومن ثم فإن إنهاءه يصبح حقا مشروعا يسلم به الجميع , بل إنه فريضة قومية تأخذ أولوية علي كل ما عداها , وتحتل مكانا بارزا متقدما في قائمة الأهداف القومية , ولذلك فإن من المهم ألا يعطي المقاتل في سبيل الحق أي انطباع بأنه مقدم علي عدوان أو يفتري علي حق غيره , أو يهدده ويتوعده , أو يطلق العنان لعبارات الزهو الزائف وشعارات الطنطنة الفارغة , بل عليه أن يثبت للعالم ويكرر دون ملل أن ما يهدف إليه هو إحقاق الحق وتصحيح ما أعوج من أوضاع . وإذا كان الخصوم قد عجزوا عن الطعن في شرعية هذه الحرب وطبيعتها , فإن من المؤسف أن نري قلة قليلة تردد عن قصد أنها كانت مناورة سياسية , وليس لهذا التخبط من تفسير سوي الجهل والهوي , أما الجهل فيعود إلي أن علي كل من يتصدي لدراسة الحرب والحديث عنها أن يدرك أن الحرب لايمكن أن تكون مقصودة لذاتها , أي تشن لمجرد التدمير والخراب , وإنما تكون الحرب في أعلي درجاتها وأسمي صورها عندما تصبح وسيلة تؤدي إلي هدف عادل ومشروع , وهو ممارسة التأثير علي ارادة الخصم ودفعه الي قبول الاحتكام إلي العقل والرضوخ للحق وقواعد الشرعية , وقبول إنهاء أي أوضاع متعارضة مع أحكام القانون الدولي والعدالة .
وبهذا المعني كانت حرب أكتوبر حرب تحرير وطني بكل معني الكلمة ولو كره المغرضون الذين يفتون بغير علم أو يتحدثون بغير قدرة علي الفهم , لأنها هي التي أدت إلي تحرير كل شبر من الأرض المصرية , وهي التي دفعت إسرائيل إلي الدخول في مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية لا بد ان تنتهي بتحرير الأرض الفلسطينية وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة , مهما صادفت عملية السلام من عقبات . لأن إنكار حق أي شعب في تقرير مصيره وتحرير أرضه هو موقف يتعارض مع حركة التاريخ ومن ثم فلا يمكن أن يكتب له البقاء والاستمرار وسوف تكون حرب أكتوبر هي شعلة النور التي ستؤدي الي استكمال تحرير الجولان المحتل والشريط المحتل في الجنوب اللبناني وإذا أضفنا الي هذا معاهدة السلام التي وقعتها اسرائيل مع الاردن أصبح واضحا ان السلام الشامل الذي فتحت حرب اكتوبر الطريق اليه من أوسع الأبواب هو سلام ينهي كل اشكال الاحتلال , ويقوم علي التحرير الكامل للتراب الوطني طبقا للنموذج الذي أرسته معاهدة السلام المصرية الاسرائيلية .
ولست بحاجة ان أذكر في هذا المقام ان الجمود الذي تشهده المفاوضات الخاصة بالمسار الفلسطيني لايحقق مصلحة لأحد بل انه يهدد بعواقب وخيمة لجميع الاطراف وأولها اسرائيل فليس من مصلحتها ان تضيع تلك الفرصة التاريخية لتحقيق مصالحة شاملة تقتلع النزاع من جذوره وتبشر بعهد جديد يقوم علي التعايش الخلاق ونسيان الماضي بآلامه ورواسبه الحزينة وأكرر نصحي المخلص للشعب الاسرائيلي أن يحسم أمره وأن يختار بشجاعة بين تحقيق السلام والأمن والاستقرار وبين ضم الاراضي الفلسطينية التي لايحق للاسرائيليين ان يغتصبوها ظلما وإفتراء لان الإكراه لا يثب ت وضعا ولا يرتب حقا لأحد وكل ما يترتب عليه هو إطالة الصراع وإراقة الدماء وتهديد مستقبل الأجيال القادمة من ابناء الشعبين . أما هؤلاء الذين يحاولون تشويه الحقائق وتحويل الأنظار عن تعنتهم بإلقاء اللوم علي مصر فسوف تخيب مساعيهم وتفشل مخططاتهم لانها بنيت علي الغش والخداع فمصر لا تقوم بدور المحرض والمعوق فليس هذا من شيمتها ولا هو أمر يليق بقدرها ودورها واذا كانوا يظنون ان مصر تنزلق الي هذا لمجرد ان تثبت وجودها وتستعرض قدرتها فليس لنا إلا أن نقول لهم : كبرت كلمة تخرج من أفواهكم ان تقولون إلا كذبا ولو كانت مصر تميل الي وضع العقبات في طريق المفاوضات لكان الحال غير الحال ولما استطعتم ان تتوصلوا الي أي اتفاق , مهماحاول الأدعياء منكم ان يتقولوا ويزيفوا الحقائق ولو كنا ضد ازالة العقبات وتضييق هوة الخلافات لما كنتم قد استطعتم ان تحققوا أي تقدم وأنتم بتلك الاكاذيب والاوهام لاتخدعون إلا أنفسكم لأن الحقيقة ظاهرة للعيان كالشمس الساطعة , لايمكن أن تحجبها الاباطيل والافتراءات ونحن لسنا من المنافقين المرائين الذين يظهرون غير ما يبطنون .
ولسوف يدرك الواهمون والمكابرون عاجلا أو آجلا أنه كما بدأت عملية السلام بمبادرة مصرية فسوف تكتمل حلقاتها عندما يشاء الله بجهود مصرية , وبإسهام صادق ونزيه من الشعب المصري وحكومته فتلك رسالتنا التي لانحيد عنها وهذا هو التزامنا المبدئي والأخلاقي الذي لاتفريط فيه ولا مساومة بشأنه . إن اسرائيل تحسن صنعا إذا هي وجهت تفكيرها الي إعادة النظر في مجمل سياستها واسلوب تعاملها مع العرب وكونت لنفسها رؤية لدورها الذي يتفق مع حجمها وموقعها علي الخريطة السياسية في المنطقة واتبعت سياسة إيجابية معتدلة تشجع العرب علي الانفتاح عليها والثقة بنواياها بدلا من التحدث عن أدوار الآخرين والافتراء علي مواقفهم في الوقت الذي تعزز فيه انفاقها العسكري وتطور نظم الصواريخ التي تستخدم لأغراض حربية مستعينة في هذا كله بمعونات مالية وفنية وتكنولوجية تتلقاها من دول أخري علي نحو لا ينسجم مع الاهداف والمفاهيم المطروحة لعالم اليوم والغد وهي تعلم جيدا أن كل هذا لن يجديها نفعا ولن يدفع عنها ضررا , وكل ما هناك هو أنه قد يعود بالمنطقة الي سباق جديد للتسلح , وهو أمر لا يحقق مصلحة أحد
وثاني هذه الدروس : هو أن حرب أكتوبر كانت حرب الشعب المصري بكل طوائفه , وطليعته المقاتلة من رجال القوات المسلحة , بدعم واضح من الشعوب العربية , وبمشاركة في خندق واحد من القوات المسلحة في سوريا الشقيقة , التي تم تنسيق الخطط والخطي معها في إطار من الثقة المتكاملة والإيمان العميق بوحدة الهدف والمصير , فلا مجال والحالة هذه لإضاعة الوقت في جدل عقيم حول ما إذا كان صاحب الفضل في الحرب هو أنور السادات أم جمال عبد الناصر . فكل منهما أدي دوره البارز في إعداد الدولة والمجتمع والقوات المسلحة للحرب , وما كان يمكن أن تؤتي تلك الأدوار الفردية مهما علا قدرها ثمارها وتحقيق أهدافها بدون الإرادة الجماعية والوعي الوطني الرفيع الذي وحد الشعب وقواته المسلحة . وثالث هذه الدروس التي نستخلصها : هو أن حرب أكتوبر في عقيدتها العسكرية وتخطيطها الإستراتيجي والتكتيكي , وتوقيتها , وتطوير أسلحتها ووسائل المواجهة فيها , كانت حربا مصرية وسورية خالصة في كل شئ , لم نعتمد فيها علي أحد من الغير , ولم نترك جانبا منها لقوة أخري , وبذلك فإن النصر الذي تحقق كان نصرا مصريا وعربيا خالصا لم نعتمد في تحقيقه علي أحد وإن كنا لا ننكر فضل الاصدقاء الذين تعاونا معنا قبل الحرب بالإمداد بالأسلحة والمعدات , وهؤلاء الذين آزروا نصرنا بالوقوف إلي جانبنا قبل الحرب وبعدها سياسيا ودبلوماسيا في المحافل الدولية . ورابع هذه الدروس : هو أن النصر جاء نتيجة طبيعية لتوظيف العلم واتباع مناهجه وأصوله , وإجراء حسابات دقيقة في جميع المجالات الاستراتيجية والسياسية والجيوبوليتيكية , قامت علي أسس وقواعد مدروسة . أخذت بعين الاعتبار الإمكانات المتاحة , بحيث توفرت لقرار الحرب كل شروط النجاح ومتطلباته , وفي مقدمتها تحديد هدف واقعي , تحشد له كل الإمكانات والطاقات , وترتب له الأوضاع العربية والدولية المواتية , وتجند لخدمته القيادة الماهرة القادرة , التي أعطت المثل والقدوة للعطاء في أبهي صوره وأعلي درجاته , واتصالا بهذا , فإن قرار شن الحرب والتخطيط لخوضها والأداء المبدع في كل مراحلها التزم بعدم إضاعة الممكن سعيا وراء المستحيل , وهو أمر يعجز عن فهمه أو التسليم به من كانوا في جهلهم غارقين , لا يعرفون شيئا عن فنون الحرب وقواعدها , ولا يدركون أبدا الظروف التي كانت محيطة بها في كل مراحلها والإمكانات التي كانت متاحة في كل يوم دارت فيه رحي الحرب .
وخامس هذه الدروس المستفادة : هو أن حرب العاشر من رمضان تمت في كل مراحلها من التفكير إلي الإعداد والتنفيذ من خلال مفاجأة استراتيجية أذهلت العالم كله , وأفقدت الخصم توازنه وتماسكه , وقد استطاعت القيادة المصرية السياسية والعسكرية المقتدرة أن توفر للحرب هذا العنصر الهام , بالرغم من أن مصر سعت سعيا حثيثا طوال السنوات التي سبقت شن الهجوم المفاجئ لكي توفر للحرب الأرضية المناسبة في المجتمع الدولي , ولكي تضمن تفهم الحكومات والشعوب المختلفة لحق العرب في تحرير أرضهم بالقوة , بعد أن انقضت سنوات طويلة علي صدور القرار 242 من مجلس الأمن , وقد حرصت القيادة الحكيمة علي أن تثبت للعالم أننا سعينا بكل ما نملك للتوصل بالوسائل الدبلوماسية والتحرك السياسي إلي آلية مناسبة لتنفيذ هذا القرار , ولا يخفي علي محلل يلتزم بالإنصاف والولاء للحقيقة أن هذا الذي حدث كان يمثل معادلة بالغة الصعوبة , قائمة علي حسابات دقيقة , ومن ثم فإنها تشكل نموذجا يستحق الدراسة والتحليل الدقيق بموضوعيه وعلمية .
وسادس هذه الدروس : هو أن انتصار أكتوبر هو الشرط الذي لا غني عنه لتحقيق السلام , فلم يكن من المتصور بأي حال أن تدخل مصر في عملية جادة لبناء السلام في ظل خلل قائم في ميزان القوي , وفي ظل إحساس عربي باليأس والإحباط , وفي الجانب المقابل كان هناك وعي زائف بالقوة التي لا تقهر , وشعور غير مبرر بالتفوق علي العرب , واعتقاد سقيم بأنه ليس امام العرب إلا قبول ما تجود به إسرائيل وتفرضه عليهم صاغرين , وتلك أوضاع لا تمكن الأطراف من التوصل إلي اتفاق متوازن , يقوم علي تكافؤ الحقوق والالتزامات المتبادلة بين الطرفين , ولذلك , فبمجرد أن زلزلت حرب أكتوبر الأرض تحت أقدام المؤسسة الإسرائيلية الحاكمةوقيادتها المدنيه والعسكرية , أصبح الطريق مفتوحا علي مصراعية للدخول في مفاوضات جادة ومثمرة , ولو تأخرت نتائجها علي بعض المسارات إلي حين
وسابع تلك الدروس : هو أن القوات المسلحة المصرية بذلت جهدا خارقا لتحقيق أقصي استفادة ممكنة من الأسلحة التي كانت متوفرة لديها , وتمكنت بهذا من تحييد عنصر التفوق الذي كانت تتمتع به اسرائيل في بعض نوعيات العتاد والسلاح , ولسنا نسجل هذه الحقيقة لكل نقلل من قدر السلاح الذي كانت تحوزه القوات المسلحة , وإنما نقررها لكي يكون واضحا في الأذهان أن العنصر البشري القادر علي الخلق والإبداع , يظل عنصرا حاكما في أي صراع مسلح . وأن الإنسان يستطيع أن يسخر ملكاته العقلية لتحسين موقفه وخدمة أهدافه , وحتي إذا كان الخصم يتمتع بمزايا نسبيه في بعض المجالات , وكثيرا ما ملأ الإسرائيليون الدنيا ضجيجا بقولهم إن المهم ليس هو السلاح , وإنما هو اليد التي تحمله , وجاء الوقت لكي يتحققوا من أن هذا القول الذي كثيرا ما تشدقوا به قد انطبق هذه المرة , ولكن في غير صالحهم , وأن المقاتل المصري لم يكتف بالاستخدام الأقصي للسلاح الذي كان متاحا أمامه , وإنما استخدم قبل كل شئ عقله ووجدانه , فسخر كل ملكاته ومواهبه لخدمة الهدف الأسمي , وجاء الأداء علي أرفع المستويات التي يمكن أن يصل اليها البشر .
وثامن تلك الدروس : هو أن حرب أكتوبر المجيدة أتاحت لمصر والعرب لأول مرة في تاريخ الصراع مع إسرائيل أن يتحولوا من موقع رد الفعل إلي موقع المبادأة والفعل , سواء في المجال العسكري أو السياسي أو الإعلامي , واصبح العرب مبادرين لا يكتفون بتلقي مبادرات الخصم وإعداد ردهم عليها , وإنما صاروا يملكون زمام الأمور بأيديهم , ويوجهونها الوجهه التي تحمي مصالحهم وتخدم قضيتهم , وهذا تطور نستيطع أن نحتفظ بجوهره وأسلوبه في كثير من القضايا الأخري , لأن القدرة علي الفعل والمبادأة تحقق لصاحبها مزايا لا تنكر وفوائد لا تحصي في شتي المجالات .
وتاسع تلك الدروس : يتعلق بأهمية تعزيز التلاحم الاجتماعي وتقوية الانتماء الوطني , وتوفير تماسك الجبهة الداخلية , كعنصر حاسم في تحقيق الأهداف القومية , فلم تكن حرب أكتوبر معركة انفردت بها القوات المسلحة وحدها , وإنما تحملت فيها هذه القوات التي يعتز بها كل مصري ومصرية المسئولية الأولي وعبء المواجهة الحاسمة , وهذا أمر لن تمحوه الذاكرة من تاريخنا أبدا , وسيظل كل مصري يفخر به في كل العصور , ولكن هذا لا يمنع من تقرير حقيقة لا تنال من هذا الإنجاز الكبير , وهي أن القوات المسلحة المصرية التي كانت تستند إلي جبهة داخلية صلبة استطاعت أن تكون رأس الحربة لتحرك الشعب المصري بل والأمة العربية بأسرها , فلا توجد في مصر أسرة لم تقدم شهيدا أو مصابا أو مقاتلا , ومن هنا , جاءت الحرب ملحمة اندمجت فيها القيادة والقوات المسلحة والشعب , في منظومة متكاملة مباركة , وكان جديرا بها أن يرعاها الله سبحانه وتعالي , ويكتب لنا التوفيق والنجاح .
وعاشر الدروس المستفادة : هو أن نصر أكتوبر الذي هيأ البيئة المناسبة للتنمية الاقتصادية الحقيقية والبناء الداخلي , ولولاه لظلت جهود التنمية في مصر تراوح مكانها , وإذا تحركت فبمعدلات محدودة وإيقاع بطئ غير محسوس اما بعد أن فتح النصر الطريق إلي السلام والاستقرار , فإنه أصبح متاحا لنا , بل أقول أصبح لزاما علينا , أن نوجه مواردنا وقدراتنا لعملية التنمية بكل جسارة وطمأنينه , وبكل ايمان بأن التنمية المستمرة المتصلة هي الطريق الوحيد لتأمين حقوق الوطن والمواطن , وأن تلك التنمية بمعدلاتها الجديدة قادرة علي الوصول بمصر الي الآفاق الفسيحة التي نتطلع إليها بأبصارنا وأفئدتنا .
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء
إن ايماننا كامل لا يتزعزع بقدرتنا علي تحقيق أهدافنا وأمانينا الوطنية في كل المجالات , بعد أن تمكنا من الانتقال من وطأة الهزيمة إلي بهجة النصر , ومن مرارة الاحتلال إلي شرف تحرير التراب الوطني , ومن الشعور بالإحباط إلي الإحساس بالفخر والاعتزاز ويجب أن تدرك الأجيال الجديدة من أبنائنا أن حرب أكتوبر كانت في جوهرها عبورا بمصر والأمة العربية كلها إلي فجر جديد لا يقتصر علي تحربر الأرض وممارسة السيادة , وانما يمتد إلي استعادة الثقة بالنفس , والتمسك بالأمل , والسير علي طريق البناء والتقدم في كل ربوع مصر ونجوعها , نستلهم دروس كل ما هو إيجابي في تاريخنا الحافل , وهو رائع وكثير , واضعين نصب أعيننا الآداء الرفيع لقواتنا المسلحة في تلك الأيام المباركة من اكتوبر 3791 , منطلقين الي آفاق أوسع وأبعد , ونحن أعمق ايمانا , وأشد صلابة , واكثر شموخا متطلعين إلي مستقبل زاهر لبلادنا الحبيبة .
وسوف تظل روح أكتوبر العظيمة تتفاعل مع واقعنا , لكي يرتفع كل إنجاز إلي مستوي الأداء في تلك المعركة الفاصلة . وسوف تظل روح أكتوبر المجيدة تسري في جسد الأمة , فتمنحها الثقة وتعطيها الأمل والقدرة علي مواجهه أعتي التحديات . سوف تظل روح اكتوبر الخالدة معينا لا ينضب , وشعله مباركة لا تنطفئ , بل تبقي متوهجة إلي الأبد لكي تمنحنا القدرة علي الإنجاز, والشجاعة في التجديد والتطوير المستمر والتحلي بمراجعه الذات وتصحيح الخطوات , لأن صالح المجتمع فوق كل اعتبار . سوف تبقي روح اكتوبر جذوة حية مباركة , تذكرنا دائما بأن قوتنا تكمن في وحدتنا , وأن تماسك جبهتنا وترابط صفوفنا هما العنصران اللازمان لأي نجاح أو تقدم , وأن يدا واحدة لا يمكن أن تحقق الانجاز الذي نتوق اليه , والنهوض الكبير الذي نعمل علي تحقيقه , لأن يد الله مع الجماعة وليس منا من يدعو إلي الفرقة أو يسعي إلي شق وحدة الصف والله يوفقنا ويرعي مسيرتنا إنه نعم المولي ونعم النصير
المصدر http://www.sis.gov.eg/Ar/Story.aspx?sid=24885 |